غزلان قتور
عند تخرجي من مدرسة المعلمين، حلمت أن يتم تعييني بمدينة أو قرية قريبة؛ حلمت أن استمتع بذكاء الأطفال، أن اعلم جيلا يستوعب ما يقال. كنت أتذكر و أراجع دروس التكوين لاستثمارها في عملي. ولكن هيهات بين الواقع و الحلم! عينت في مكان بعيد، أطفاله يسيرون أميالا و أميالا للوصول إلى المدرسة في طريق شعابه ووديانه أكثر من يابسته. أجسامهم ترتجف بردا أيام الشتاء و وجوههم أشحبتها صفعات الرياح!! لكم تمنيت لو أن قدرهم غير الذي يعيشونه، فقلبي ينفطر عندما أرى أن أغلبهم عراة أو حفاة. إنهم غير محتاجين لمن يعلمهم بقدر ما هم محتاجين لمن يحسهم!!
أنا أيضا أعاني السحق، فالأمر ليس هينا عليٌ؛ لأول مرة أعهد مكانا كهذا… أسير ثمانية كيلومترات للوصول إلى المدرسة في طريق خالية لا يسمع فيها سوى طنين النحل الذي يرعى على نبات إكليل الجبل. أنزل سفحا و أصعد قمة أخرى لأكثر من ساعتين، ويزداد الأمر صعوبة أيام المطر عندما تجري المياه في الوادي الفاصل بين الجبلين ، حيث لا أستطيع قطعه إلا بمساعدة أهل القرية راكبة فوق دابة أو محملة على ظهر احدهم، فاشعر بالخجل تارة وبالقرف من وضعي تارة أخرى… أصل منهكة إلى المدرسة، ولا أجد سوى أطفال ينتظرون من سينقدهم من شبح الأمية و يغير قليلا من روتين حياتهم، فالمدرسة هي المتنفس الوحيد الذي يحسون فيه بطفولتهم، فيها يدرسون و يلعبون و يمرحون و ينسون متاعب الرعي و السقي و أعمال الفلاحة التي يقومون بها مساعدة لآبائهم؛ و لا يمكنني إلا أن أدخل القسم لأقوم بواجبي، ولا أهتم بجوعي ولا بعطشي ولا بتعبي إلا بعد انتهاء وقت العمل. فـأدخل سكن المدرسة، أخرج الأفرشة للهواء، أنظف الجدران من خيوط العناكب، أكنس الغبار و أدخل الأفرشة بعد نفضها؛ ثم أغسل بعض الأواني بالماء الذي يجلبه لي الأطفال من العيون و أصنع أكلا، فآكل و أنام قليلا… أستيقظ و ساعة الغروب، أذهب إلى القسم، أتأكد من أنه مغلق، أتأكد من القسم الأخر و من المسكن المقابل لمسكني. أدخل بعدها و أغلق الباب و بداخلي خوف كبير أن يحاول أحدهم الاقتراب من المدرسة أو الاعتداء عليٌ، فالمدرسة في مكان منعزل عن الساكنة و بدون سور للحماية، و لا أرى الناس إلا نادرا !! وحيدة أدرس عدة مستويات، أحرس المدرسة، أوزع حصص المطعم المدرسي على المتعلمين ولا أزور أسرتي في المدينة إلا بعد اسابيع… أزداد كآبة في فصل الشتاء، فجو المنطقة يكون قاسيا، رياح على مدار الأيام، ثلوج و برد قارس!! أسهر ليال وأنا أفكر إذا كنت سأظل رهينة الوحدة و الأرياف مدى العمر، تاركة ورائي حياة الشباب و أحلام الحب و الأمومة ؟!! و لكن ما عساني أفعل؟! أحاول تغيير نمط الكآبة بنكهة مرح و حكايات طريفة مع هؤلاء الصغار، أبدل نظرة اليأس في عيناي بابتسامة أمام كل من رآني، أغير التشاؤم بداخلي بتفاؤل قد يغير طعم هذه الحياة. أحاول أن أضع مكان المرارة سعادة قد تسعد أطفالي!! نعم إنهم أطفالي، فمعهم أعيش و معهم أتعلم معنى الحياة!! فالحياة في هذه الظروف تتراءى لي كقشة يحملها الريح عندما تتحطم أحلام الطفل، و بدل أن يحلم بتعلم جملة، يصير حالما بتعلم حرف وسط قسم ذو بناء هش سقفه يمطر، مع معلم بائس و يشاركه فيهما عدة أطفال من مستويات مختلفة.
ذات صباح و أنا أتأمل منظر البادية، سمعت طائرا يغرد؛ كان لحنه دافئا، صوته يوهم بأنه سعيد و بأن الغد سيكون مشرقا. تساءلت و نفسي: لم يغني هذا الطائر؟ أ لأنه لا يحس بما نحن عليه؟ أم لأنه حر لا يدرك زنزانة الحياة مثلنا؟… راقني تغريد الطائر، أردت رؤيته، خرجت للبحث عن مكانه، كان فوق شجرة قرب مسكني، اقتربت منه فحلق بعيدا…
دخلت المسكن، وفتحت المذياع الذي كان يؤنس وحدتي، فالقرية غير مجهزة بالكهرباء لأجلب تلفازا! استمعت لخبر بائس: أحد الأطفال استشهد بفلسطين!! اقشعر بدني و تكفكف الدمع على خدي، شعرت بحزن رهيب. حزنت لوحدتي و فراغي و معاناتي للوصول إلى المدرسة، تالمت لطفل من عمر أطفالي يفدي حياته سبيل الوطن!! أغلقت الراديو و داخلي منهزم، خرجت من المسكن ثانية، سمعت الطائر يغرد من جديد؛ فكرت مع نفسي: إن الطائر يغني لأنه سعيد، سعيد بهؤلاء المدرسين الذين يعانون من اجل رسالة نبيلة، سعيد بهذه البراءة الشجاعة؛ أطفال يتغلبون على قسوة الحياة للتعلم، و آخرون يستشهدون سبيل حريتهم!! إنهم ليسوا أطفالا، بل ملائكة على الأرض، بواسل الخرافات في الواقع، و رجال تشق الطريق إلى النصر وتهزم الإحباط والسكون!!.